أحمد الشرع: دونكيشوت فوق حصان طروادة!
الأخبار: فراس الشوفي-
قبل ثلاثة أسابيع، وقف الموفد الأميركي إلى سوريا وسفير واشنطن في أنقرة توم برّاك من على منبر رئاسة الجمهورية اللبنانية، بعد لقائه الرئيس جوزف عون، معلناً عن «سوريا المذهلة»، مع جملة نصائح للبنانيين للاقتداء بحُكم و«حكمة» الرئيس السوري المؤقّت أحمد الشرع.
منح برّاك صك غفران للشرع الذي، بحسب عرّابه الجديد القديم السفير روبرت فورد، لم يعترف بجرائمه السابقة ولم يعتذر عنها، قبل أن يضيف إلى سجلّه جرائم ما بعد سقوط النظام السابق.
وذهول رجل الأعمال وصديق الرئيس دونالد ترامب، ليس من تحوّل سوريا إلى سنغافورة بهذه السرعة، بل لظهور قابلية عالية لدى الشرع لعقد اتفاق تطبيع مع إسرائيل، من خلال مواقفه وتصريحاته وخطواته على الأرض ورسائله للأميركيين والغربيين واللقاءات العديدة في أماكن وأزمنة متنوّعة بين موفديه وموفدي إسرائيل، كان آخرها لقاء باكو في أذربيجان.
هذا هو المعيار الذي قدّم برّاك النصح للبنانيين على أساسه، مع التلويح بإنهاء الكيان اللبناني في حال عدم الامتثال لأوامر ممثّل الباب العالي الأميركي، المقيم في أنقرة.
طبعاً، المجازر والجرائم في الساحل السوري وحمص وحماه ودمشق وريف دمشق التي ارتكبتها وترتكبها الأجهزة الأمنية والعسكرية الجديدة، صفحة وطويت عند برّاك، لزوم مصلحة الأميركيين ومحاولة خلق نجاحات غير موجودة، مع عجز ترامب عن تحقيق إنجاز واحد.
نال الشرع خلال لقائه ترامب غطاءً أميركياً/ غربياً - عربياً - تركياً مع شبه رضى إسرائيلي على مكاسب سقوط النظام السابق، لإخضاع السوريين تحت عنوان الدولة الجديدة.
تُرك السوريون في هذه المعادلة لقدرهم، ولأبعد مدى للتوحّش الوهابي التكفيري، وتفشّي الفاشيات بكل أشكالها وتلاوينها.
فالعلويون والمراشدة في موازين القوى الحالية لا أمّ تبكي عليهم، والمسيحيون ينزفون ولا يرفعون الصوت لأن الكنائس تخشى تسارع هروب المسيحيين من سوريا، وكل ما لدى الغرب ليقدّمه هو تأشيرات السفر.
وقد نجح الآغا خان الجديد للإسماعيليين، بعد أن دفع مبلغاً من المال للشرع، بأن يكتفي عناصر التشكيلات العسكرية في الدولة «الجهادية» الجديدة بإهانتهم واضطهادهم من دون قتلهم بشكل ممنهج (حتى الآن).
وبينما فرّ جزء كبير من الشيعة السوريين إلى لبنان تحت وقع الجرائم اليومية، تحاول إيران مع تركيا حماية الباقي ومعالمهم، ولا سيّما المهمة، كالسيدة زينب، من مخططات التدمير.
أمّا الغالبية المسلمة من السوريين، فتحاول امتصاص الأزمة خشية لجوء فصائل هيئة تحرير الشام إلى العنف الواسع ضدها في ظلّ عدم وجود نصير لها، مع رفضها للأفكار الوهابية التي ينشرها أمراء الهيئة بالقوة والهيمنة في المدن والأرياف السورية.
وقد فهمت الشريحة الأوسع من المسلمين السوريين منذ مجازر الساحل، بأن هذه الفظاعات، ما هي إلّا مجرّد تمرين لما قد يحصل لأي تمرّد سنّي في المدن، في عودة إلى ذاكرة حملات التصفية التي شنّها الشرع ضد العديد من إخوانه في الفصائل الأخرى والجيش السوري الحر.
من ضمن هذه الخطوط العامة لسياسات الدولة الجديدة ورموزها وإعلاميّيها، قرّر الشرع هذه المرّة انتهاز الفرصة والإعلان عن بدء سيطرته الكاملة على الأراضي السورية (عدا الأراضي التي تحتلها وتقضمها إسرائيل يومياً في القنيطرة ودرعا وريف دمشق)، عبر شنّ حملة عسكرية على محافظة السويداء، بحجّة فضّ الاشتباك بين السكان الدروز والبدو، بمجموعات من الأمن العام وفصائل الهيئة، من بينهم بعض المقاتلين الأجانب وشبّان صغار من الشمال السوري استقطبهم جيش الشرع أخيراً وعبّأهم بالكراهية والتطرف ضد السوريين الآخرين.
وبعض هؤلاء شارك في مذابح الساحل وفي قتل المدنيين خلال أحداث صحنايا وجرمانا، وكانت أسلحتهم البنادق والخناجر وماكينات الحلاقة.
بحسب فلسفة الشرع، فإن إخضاع السويداء الضعيفة هو تمهيد لإخضاع الأكراد الأقوياء من دون معركة، بعد أن أصيبت فصائل تركيا بالعطب من العقوبات الأوروبية، علّه يعوّض شيئاً من خسائره في اتفاق آذار مع مظلوم عبدي، حين وقّع على الاتفاق إرضاءً للأميركيين ولطمس معالم جرائم 7 و8 و9 آذار في الساحل السوري.
لكنّ تلك العملية، لم يكن الشرع لينفّذها إلّا إذا كان مطمئنّاً لردّ فعل إسرائيل، متّكئاً على محادثات باكو، وعلى الغطاء الأميركي، لتحقيق نصريْن افتراضيَّيْن، واحد على السويداء كرمز لأقلية متمرّدة، والنصر على «عملاء» إسرائيل في البلاد!
ناسياً أن السويداء لم ترفض الدولة، ولا يوجد تصريح واحد لشخصية من السويداء ترفض الدولة، لكنّها ترفض فصائل الشرع، خصوصاً بعد أن خبرتها من قلب لوزة في إدلب إلى صحنايا وجرمانا والساحل. والدولة السورية، نشأت بالأساس في السويداء قبل مئة عام بالتمام والكمال في 21 تموز 1925.
كما أن أهالي السويداء ليسوا عملاء لإسرائيل، بل هم على النقيض من ذلك كغالبية الشعب السوري، وإن كان لا بدّ للشرع أن يحارب إسرائيل فليوقف على الأقل مفاوضات التطبيع أو ليواجه القضم الذي يمارسه جيش الاحتلال للأراضي السورية.
لكنّ دونكيشوت سوريا وسائر المشرق الجديد، لم يحقّق لا نصره الأوّل ولا نصره الثاني، بل على العكس من ذلك، وهو يحارب طواحين الهواء، زرع أحقاداً وشروخاً عميقة بين السوريين، وأدخل إسرائيل إلى كل سوريا وليس فقط إلى السويداء، وأعطاها كامل الذرائع للسيطرة على الجنوب السوري والتدخّل لدعم تلك الجماعة أو القبيلة كلّما زادت الفوضى.
وبدل أن يخاف الأكراد فيهرعوا إلى تسليم سلاحهم للشرع كما كان يخطط، ها هي مذابح السويداء وقبلها الساحل والهجوم الانتحاري ضد كنيسة مار الياس، تدفع الأكراد والجماعات السورية إلى السعي للتمسك بالسلاح والذهاب نحو المطالبة بالإدارات الذاتية والتقسيم ورفض الخضوع للدولة السلفية الوهابية الجديدة.
وبدل جمع السوريين، أيقظ عصبيةً بدوية قبليّة وزجّ ببعض العشائر في معركة مع إخوانهم السوريين من أهل السويداء، بينما أراضي العشائر محتلة في الجولان، وعشائر فلسطين تُقتل في الضفة وغزّة.
ما كان كابوساً قبل سنوات، عن ظهور إسرائيل كحامٍ للأقليات والجماعات، كرّسته أخطاء الشرع وداعميه، بعدما تخلّى الجميع عن السوريين، وقرّرت إسرائيل الجاهزة دائماً لتصيّد الفرص وصنعها. في معركة السويداء، كان الشرع دونكيشوت فوق حصان طروادة، أدخل الأعداء إلى قلب البلاد بالمعارك الوهميّة.
وهذه ليست النهاية، إنّما مجرّد البداية، إذ يصرّ الشرع ومن معه على المزيد من الأخطاء والهمجية، مع اقتناعه بقدرته على الاستمرار وإرضاء الأعداء عبر تقديم التنازلات لإسرائيل، رغم أن أنصاره اضطروا إلى النزول إلى ساحة الأمويين مرتين خلال أسبوع، للتأكّد من أن الرئيس المؤقّت لم يهرب، وأن انقلاباً لم يحصل.