newsare.net
لم يكن اجتماع الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع قادة أوروبا حدثاً عابراً في سياق الحرب الأوكرانية المستمرة منذ أكثر من 42 شهراً، بل محطة مفصلية كالأرض مقابل السلام.. صفقة مكلفة تعيد رسم اقتصاد العالم
لم يكن اجتماع الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع قادة أوروبا حدثاً عابراً في سياق الحرب الأوكرانية المستمرة منذ أكثر من 42 شهراً، بل محطة مفصلية كشفت حجم الضغوط الاقتصادية والسياسية التي تُعيد رسم معادلة هذه الحرب. ففي الوقت الذي تتداول فيه الأوساط الأميركية سيناريو مثيراً يقوم على تخلي أوكرانيا عن نحو 20 بالمئة من أراضيها مقابل السلام، تبرز التساؤلات حول قدرة هذا الطرح على إنهاء النزاع، وحول الأثمان الباهظة التي تكبدتها الاقتصادات العالمية جراء الحرب. فبينما ترى بعض الدول الأوروبية في مقترح ترامب «انتصاراً صافياً» للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تبدو كييف محاصرة بين هواجس فقدان أراضيها وخسارة حلمها بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وبين ضغوط واشنطن التي تسعى لإخراج نفسها من حرب باتت أكثر كلفة من أي تقديرات سابقة. منذ بداية الحرب، شكلت مسألة انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو نقطة الصدام الأكثر خطورة مع موسكو. اليوم، ومع طرح فكرة «الأرض مقابل السلام»، تبدو كييف أمام معادلة صعبة: فالموافقة على هذه الصيغة قد تضع حداً للحرب لكنها تعني عملياً التخلي عن مشروعها الأطلسي، فيما الرفض قد يطيل أمد الصراع إلى أجل غير معلوم. المقترح الأميركي لم يمر دون إثارة جدل واسع في أوروبا، حيث ترى بعض العواصم أن الأمر لا يتجاوز كونه محاولة من ترامب لتسجيل «نصر سياسي شخصي»، حتى لو جاء ذلك على حساب وحدة الأراضي الأوكرانية. وبحسب تقارير أميركية، فإن الاتفاق الذي يلوّح به البيت الأبيض قد يُجبر كييف على التخلي عن جزء من أراضيها، ويُنهي حلمها بالعضوية في الناتو، وهو ما تعتبره دول أوروبية عديدة «هدية مجانية لبوتين». فاتورة حرب ثقيلة الأرقام الاقتصادية ترسم صورة أوضح من أي خطاب سياسي. فالحرب الأوكرانية كبّدت الاقتصاد العالمي خسائر مباشرة تجاوزت 3 تريليونات دولار، في حين تكبدت أوروبا وحدها نحو 1.5 تريليون دولار نتيجة التباطؤ الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم. أما أوكرانيا، فقد خسرت قرابة تريليون دولار بسبب تدمير البنية التحتية وتعطل عجلة الإنتاج. روسيا، الطرف الآخر في النزاع، لم تخرج سالمة أيضاً. فقد تخطت خسائرها اليومية حاجز 300 مليون دولار، وتعرضت لأكثر من 24,000 عقوبة اقتصادية شملت معظم قطاعاتها الحيوية، ما أجبرها على إعادة رسم استراتيجيتها الاقتصادية والبحث عن أسواق بديلة في آسيا والعالم العربي. ورغم هذا النزيف، فإن مجرد الحديث عن مفاوضات سلام أعاد الأمل إلى الأسواق الأوروبية. فقد شهدت البورصات في القارة العجوز صعوداً إلى أعلى مستوياتها منذ خمسة أشهر، في انعكاس لتفاؤل المستثمرين بقرب عودة الاستقرار. شروط موسكو الثابتة في هذا السياق، تقول أستاذة العلاقات الدولية في معهد الاستشراق في موسكو، د. علا شحود، خلال حديثها إلى برنامج بزنس مع لبنى على سكاي نيوز عربية: «الحقيقة أن الشروط الروسية واضحة، ولاحظنا أنها لم تتغير رغم كل التصريحات. روسيا تريد بالدرجة الأولى عدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو بأي شكل، مع توقيع اتفاقيات مكتوبة بخط اليد لضمان ذلك. ثانياً، فك الحظر عن الأصول الروسية المجمدة في البنوك، والتي تتجاوز قيمتها 350 مليار دولار، بالإضافة إلى إلغاء العقوبات الاقتصادية التي تجاوزت 24,000 حزمة. وثالثاً، الاعتراف الرسمي بشبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي اندلعت الحرب بسببها، كجزء لا يتجزأ من روسيا». شحود: الدول الغربية ركزت على كسر روسيا اقتصاديا وتضيف شحود أن موسكو «لن توافق بأي شكل على اتفاقية إنهاء الحرب أو وقف إطلاق النار دون إعلان صريح يضمن هذه المطالب»، مؤكدة أن روسيا تنظر إلى الصراع باعتباره حرباً اقتصادية بقدر ما هو حرب عسكرية. الاقتصاد.. السلاح الأبرز في الحرب توضح شحود أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية استخدمت الاقتصاد كسلاح استراتيجي ضد روسيا خلال السنوات الماضية. فقد أدى انخفاض أسعار النفط من نحو 100 دولار إلى 60 دولاراً للبرميل إلى تقليص إيرادات الحكومة الروسية، إذ يعتمد نحو 30 بالمئة من الميزانية الفيدرالية على مبيعات النفط. وتقول: «روسيا عانت تبعات اقتصادية متتالية، واضطرت للبحث عن أسواق بديلة في الهند وبعض الدول العربية والصين، وبيع منتجاتها النفطية بأسعار أقل. هذا أثر بشكل كبير على الشركات الخاصة والحكومية، وعلى خطط التنمية والتطوير في البلاد. اليوم، روسيا بحاجة إلى إعادة تأهيل البنية التحتية، من السكك الحديدية إلى قطاع الطيران، وكل ذلك يتطلب أموالاً طائلة». وترى شحود أن الحرب رسّخت لدى موسكو قناعة بضرورة بناء تحالفات اقتصادية قوية، معتبرة أن «المنتصر اقتصادياً هو المنتصر سياسياً»، مستشهدة بنموذج الولايات المتحدة التي تُعترف بها كأقوى دولة في العالم أولاً بفضل قوتها الاقتصادية، ثم السياسية والعسكرية. ترامب والنهج الاقتصادي في السياسة الرسالة التي حاول ترامب إيصالها خلال لقائه بقادة أوروبا، وفق شحود، هي أنه وحده القادر على إنهاء الحرب أو إطالتها. فبمجرد أن هدد بسحب الدعم المالي والعسكري، بدت العواصم الأوروبية في موقف الضعيف، عاجزة عن الاستمرار في تمويل حرب تستنزف مواردها. وتضيف: «عندما اجتمع ترامب مع قادة الدول الأوروبية، أراد أن يثبت أنه القائد الذي يستطيع أن يدخلهم في أي حرب أو يخرجهم منها، لأنه يملك الاقتصاد الأقوى. وعندما قال لهم لن أدفع، أصبحوا جميعاً يضغطون على زيلينسكي لإنهاء الحرب بطريقة تحفظ ماء وجوههم». أوروبا بين المطرقة والسندان بالنسبة للقارة الأوروبية، فإن التحدي يتمثل في الموازنة بين ضغوط واشنطن وخطر الاعتراف بانتصار روسي واضح. فقبول سيناريو «الأرض مقابل السلام» قد يُنظر إليه داخلياً كهزيمة جيوسياسية، لكنه في الوقت ذاته قد يكون السبيل الوحيد لتخفيف الأعباء الاقتصادية التي تضغط على اقتصادات أوروبا منذ ثلاث سنوات. وتوضح شحود أن القادة الأوروبيين يجدون أنفسهم اليوم في «موقف مهين» أمام ترامب، الذي يتعمد – بحسب وصفها – إظهارهم كعاجزين عن اتخاذ قرارات مستقلة. وتقول: «ترامب أراد أن يثبت للعالم أنه لا يوجد قوة تستطيع منافسة الولايات المتحدة، وخاصة تحت قيادته. هو يريد أن يقول لهم: أنتم لا شيء من دون أميركا، وقائدكم الحقيقي هو البيت الأبيض». بوتين وترامب: ملامح تفاهم غير معلن لقاء بوتين وترامب، سواء في القمم أو عبر الاتصالات الهاتفية التي استمرت لساعات، حمل إشارات واضحة على تقارب في الرؤية الاقتصادية. فبوتين، بحسب شحود، «يعجبه نهج ترامب في إدارة الاقتصاد والبحث عن الأرباح السياسية عبر المكاسب الاقتصادية». وتشير إلى أن كلا الزعيمين يتشاركان قناعة بأن «الرابح اقتصادياً هو الرابح سياسياً»، ما قد يفسر رغبة ترامب في تقديم نفسه كـ«صانع سلام» قادر على إنهاء حرب أنهكت الجميع. الخاتمة: حرب بوجه اقتصادي الحرب الأوكرانية التي بدأت كصراع جيوسياسي تحولت تدريجياً إلى حرب اقتصادية بامتياز. خسائر بمليارات الدولارات يومياً، عقوبات متبادلة، وأوروبا عالقة بين مطرقة الضغوط الأميركية وسندان الخوف من انتصار روسي معلن. ترامب يسعى لتوظيف هذا المشهد لإبراز نفسه كقائد عالمي قادر على فرض الحلول، فيما تتمسك موسكو بشروطها كمدخل وحيد لإنهاء الحرب. أما أوروبا، فتقف على خط هشّ بين القبول بتسوية تُنهي النزيف الاقتصادي وبين رفضٍ قد يطيل أمد الأزمة. في النهاية، يبدو أن مصير الحرب لن يُحسم في ساحات القتال وحدها، بل على طاولة المفاوضات الاقتصادية، حيث باتت الأرقام والخسائر هي اللغة الأكثر تأثيراً، وحيث المنتصر اقتصادياً قد يكون هو المنتصر السياسي الفعلي. Read more