newsare.net
كان لافتاً ما أشار إليه الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة في مقابلته الأخيرة على قناة «العربيّة»، حين أشار -في سياق الدفاع عن نفسه- إلرياض سلامة يكذّب سرديّة لوبي المصارف: الحقائق لا تبرئه؟! (المدن)
كان لافتاً ما أشار إليه الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة في مقابلته الأخيرة على قناة «العربيّة»، حين أشار -في سياق الدفاع عن نفسه- إلى أنّ المصرف المركزي أعاد إلى المصارف الدولارات التي أودعتها لديه، إضافةً إلى 35 مليار دولار أميركي. ولهذا السبب، اعتبر سلامة أنّ التزامات المصرف المركزي الحاليّة لمصلحة المصارف، بالعملات الأجنبيّة، لم تتأتَّ من «دولارات فريش» جرى إيداعها لديه، بل كانت عبارة عن «سيولة دفتريّة» جرى تحويلها من الليرة اللبنانيّة إلى الدولار الأميركي بسعر الصرف الرسمي. كما أنكر سلامة أن يكون المصرف المركزي قد أقرض الدولة دولارات المودعين، معتبراً أن مصرف لبنان «لم تكن له علاقة بإقراض الدولة» بالعملة الصعبة.ما أراد سلامة قولهمن المفيد التذكير أنّ رياض سلامة كان قد كرّر هذا النوع من التصريحات عام 2020، مع بدايات الأزمة، من دون أن تلقى عباراته الاهتمام اللازم. فهذه الحجج، التي تنطوي على قدر من الحقيقة، تتعارض مع المزاعم والرسائل التي يكرّرها اللوبي المصرفي في حملاته الإعلاميّة، والتي تركّز على «مسؤوليّة الدولة» في إطفاء خسائر مصرف لبنان، لكونها اقترضت هذه الأموال واستعملتها لتمويل الإنفاق العام. ما أراد رياض سلامة قوله، من دون أن ينجح في تفسيره بدقّة، هو أنّ عمليّة إقراض مصرف لبنان للدولة جرى بالليرة اللبنانيّة، وهي عملة يستطيع طباعتها، ولا علاقة لهذه المسألة بفجوة خسائر العملات الأجنبيّة القائمة اليوم في المصرف المركزي. أمّا فجوة الخسائر في المصرف، فنتجت عن العمليّات المتبادلة بين مصرف لبنان والمصارف التجاريّة، والتي قام خلالها المصرف المركزي بتمويل تحويلات المصارف إلى الخارج، في إطار السياسة النقديّة المُعتمدة. وكجزء من هذه العلاقة المتبادلة أيضاً، منح المصرف المركزي أرباحاً خياليّة لأصحاب المصارف، لقاء إيداع أموال المودعين بالدولار في مصرف لبنان. كما وافق المصرف المركزي على بيع المصارف دولارات محليّة، في حساباتها لدى مصرف لبنان، وهو ما يشير إليه سلامة حين يتحدّث عن «السيولة الدفتريّة» المتبقية حالياً بعد إعادة الأموال إلى المصارف (من خلال تمويل التحويلات).باختصار، ما قاله سلامة هنا صحيح: أزمة الدين العام غير مرتبطة بأزمة خسائر مصارف لبنان، المُتسببة حالياً بأزمة القطاع المصرفي. والعمليّات المتبادلة بين مصرف لبنان والمصارف التجاريّة هي ما أشار إليه البنك الدولي بعبارة «البونزي سكيم»، أي العمليّات الاحتياليّة، والتي قامت على عدّة ركائز: إيداع أموال المودعين في مصرف لبنان، ومنح المصرفيين أرباح خياليّة من أموال المودعين في المصرف المركزي، وتمويل تحويلات المصارف إلى الخارج من أموال المودعين أيضاً. وفي النتيجة، كان حجم الدولارات التي دفعها مصرف لبنان للمصارف أكبر من تلك المودعة لديه، وهو ما يفسّر وجود الفجوة حالياً.الوضع الحالي بالأرقامالمصرفي جان رياشي كان قد نشر تغريدة يوم أمس السبت، مشيراً إلى أنّ «مصرف لبنان لم يُنفق دولاراته عبر إقراضها للدولة كما يروَّج البعض. وكل ما يمكن اعتباره إقراضاً بالدولار يقتصر على حالتين محدّدتين لا غير: تملكه (أي المصرف المركزي) حوالي 5 مليارات دولار من سندات اليوروبوند، والحساب المكشوف بقيمة 16.5 مليار دولار» (وهو دين مختلف على صحّته، إذ يشكّل بالنسبة لوزارة الماليّة مجرّد عمليّات إنفاق من أموال عامّة كانت موجودة أصلاً بالليرة).ولهذا السبب، يستطرد رياشي سائلاً، إذا لم تكن دولارات مصرف لبنان قد صُرفت في معظمها على تمويل الدولة، فأين ذهبت عشرات المليارات التي لم تَعُد موجودة اليوم في ميزانيته؟ الجواب واضح، بحسب رياشي: هذه الأموال خسرها المصرف المركزي نتيجة سياسات مالية ونقدية كارثية (في إشارة إلى العمليّات الذي ذكرناها أعلاه). غير أنّ رياشي يعود ويؤكّد في التغريدة نفسها أنّ هذه الحقيقة لا تبرّئ رياض سلامة، بل على العكس، فهي تدينه لأنها تكشف «سوء إدارته للمصرف ومسؤولية المصرف المركزي المباشرة عن جزء كبير من الفجوة، وليس الدولة وحدها».دراسات سابقة تؤكّدمن المهم التذكير بأنّ «المدن» كانت قد تناولت في مقالات سابقة عدّة دراسات تؤكّد أهميّة التمييز والفصل بين أسباب خسائر القطاع المصرفي من جهة، وأزمة الدين العام من جهة أخرى.ومن هذه الدراسات مثلاً، تلك التي أعدها الاقتصادي توفيق كاسبار بالاستناد إلى تقرير التدقيق الجنائي، والتي وجدت أنّ السرديّة الشائعة حول مسؤولية السياسة الماليّة عن الانهيار المصرفي لا تستند إلى معطيات دقيقة. فبحسب كاسبار، تراكم فجوة الخسائر (في مصرف لبنان) لم يكن نتيجة تمويل الميزانيّة العامّة بالدولار، بل نتاج آليات نقديّة خطيرة اعتمدها مصرف لبنان والمصارف خلال سنوات الهندسات الماليّة، من فوائد خياليّة وعمليّات أرباح متبادلة، أدّت إلى استنزاف سيولة النظام المالي. هذه الهندسات -بحسب كاسبار- راكمت كلفة بلغت نحو 60 مليار دولار بحلول 2020، أي ما يعادل أكثر من 80% من فجوة الخسائر، في سابقة تُمثّل أكبر عملية نقل للأموال العامّة إلى أرباح خاصة في تاريخ لبنان. ويشدّد كاسبار على أنّ انهيار الليرة مسار مختلف تمامًا عن الانهيار المصرفي، ما يدحض الخطاب الدارج الذي يسوّق لمعادلة «الشعب مسؤول عن الخسائر» لتبرير تحميل الدولة هذه الفجوة.وبيّنت مراجعة كاسبار أنّ ما جرى بين 2015 و2019 كان فعليًا «بونزي سكيم» متكامل الأركان: فالمصارف نقلت 75% من أموال مودعيها من الخارج إلى مصرف لبنان، وحقّقت أرباحًا طائلة مقابل هذه اللعبة، فيما اختفى نحو 25 مليار دولار يرجَّح أنها استخدمت لتمويل تحويلات كبار المساهمين إلى الخارج. لذلك، وبناءً على هذه المعطيات، يصبح النقاش حول إعادة الهيكلة جوهريًا: فمقاربة تحويل الخسائر إلى دين عام تعني شطب الودائع فعليًا، وتحويل المودع إلى دائن لدولة عاجزة. أمّا البديل العادل فهو إعادة هيكلة شاملة تتتبّع الأرباح غير المشروعة، وتصنّف الودائع، وتحمّل المسؤوليات لمصادر الخسائر الفعلية، كما تكشفها أرقام التدقيق الجنائي. من هنا، تكتسب هذه الحقائق أهميّتها، لأنها تعيد توجيه النقاش نحو جوهر الانهيار، بعيدًا عن الشعبويات التي خدمَت، وما تزال تخدم، مصالح المنظومة الماليّة والسياسيّة. Read more











